نجيب سرور كان نجيباً بالفعل، بل كان أنجب أبناء جيله وأكثرهم وسامة وتألقاً وحيوية، ولكنه للأسف لم يعرف السرور، بل مات منسياً، مشرداً، متهماً بالجنون، وهو لا يجد أحداً يتحدث اليه إلا كلاب الشوارع، الكائنات الوحيدة التى بادلته الوفاء بعدما خانه الرفاق والأصدقاء والأحبة، وأدخلوه مستشفى المجانين وأشبعوه إحباطاً واكتئاباً حتى خرج علينا بأكبر قصيدة هجائية فى الشعر المعاصر، أميات نجيب سرور التى ليست أعظم ما كتب، ولكن من المؤكد أنها أصدق ما كتب، الواقع المر القبيح واجهه «سرور» بالمزيد من القباحة، زفرة غضب وصرخة ألم وبصقة قرف وتشنيجة اكتئاب ومحاولة انتحار على الورق، حاولت يوماً ما أن أبحث عن سر اكتئاب جيل كتاب المسرح الذى ينتمى إليه نجيب سرور، ثلاثى الاكتئاب المسرحى نجيب سرور وميخائيل رومان ومحمود دياب، ماتوا بجلطة العزلة وسكتة الصمت وذبحة اللامبالاة، رومان الذى رحل قبل سن الخمسين، وعاش آخر أيام حياته، منبوذاً، مسرحياته ممنوعة ولم يحس أحد برحيله إلا البواب الذى اضطر إلى كسر باب شقته عندما أعلنت رائحة المكان عن وفاته، فلم يجد إلا جثة منتفخة، وسرور الذى مات متسولاً صعلوكاً مشرداً فى الشوارع يحاول أن يتمسرح حتى فى الميادين بعد أن طردته مسارح الدولة لدرجة أنه جعل من ميدان التحرير منصة مسرح وظل يصرخ رافعاً ابنه الصغير المخنوق المشنوق.. ألا أونه.. ألا دوا.. ألا ترى مين يشترى طفل للبيع!! وعاش آخر أيامه جثة تتنفس فى دمنهور حتى رحل فى السادسة والأربعين، أما «دياب» فقد أغلق على نفسه باب حجرته فى الإسماعيلية، حتى مات أيضاً على مشارف الخمسين، تساءلت عن السر الذى جعل هذا الثلاثى ينتحر كمداً واكتئاباً على أيدى سلطة كانت من المفروض أن تحتفى بهم!، كانت كل الظروف تشير إلى مولد نجم، موهبة طاغية صقلت ببعثة الاتحاد السوفيتى، مسرح متوهج يفتح ذراعيه ويتألق على خشبته جيل الستينات الجبار، نصوص مسرحية شعرية كتبها «سرور» بمزاج وشاعرية وعبقرية وحرفنة، كل الظروف مواتية، لكى ينتصب الشراع وينطلق قارب النجومية إلى قارة الإبداع، ولكنه للأسف انطلق إلى مثلث برمودا وتحطم على صخرة مستشفى الأمراض العقلية، نجيب سرور حكاية مثقف مصرى من الممكن أن تتكرر ألف مرة، طالما ظللنا نحاسب الفنان بدفتر الحضور والانصراف ومسطرة الأرشيف وختم النسر ولا نتسامح مع جنونه وشطحاته وراداره الحساس وبوصلته التى تمتلك رؤية زرقاء اليمامة ودقة الأشعة تحت الحمراء، وتوقع فئران السفينة الذين يهرولون فى أرجائها بإزعاج متعمد، وضوضاء مقصودة لتنبيه ركابها بأنها حتماً ستغرق ولكنّ المسافرين على سطحها سكارى مغيبون مشغولون بقتل الفئران المزعجة بدلاً من سد ثقوب السفينة.